ما يميز الدراويش عندنا في السودان الجلابية أو الجبه المرقعة وكانت معروفة من ألف ومائتي سنة ، أما ترقيع الثياب عموما فقد كان معروفاً حتى قال بعض السلف : رأيت لعمر بن الخطاب إزاراً فيه إحدى وعشرون رقعة من أدم (جلد) ورقعة من ثيابنا ، أما السبحة فهي قطعا من لوازم الذكر والإبريق هو ثالث الثلاثة من لوازم الطهارة وهذه الثلاثة هي مقومات الدراويش عندنا ، يضاف إليها السوط الذي يحمله أهل النصيحة ، والدرويش هو الفقير الزاهد ولعلها فارسية الأصل وهي لقب ديني ثم توسع الناس فيه فأصبح يُطلق على كل من يُظهر مسكنة أو قلة عناية بمظهره أو هو صاحب الأفكار المشتتة المشوشة الغير مرتبه المتقلب الأطوار الكثير الحركة أي الخفيف
والدراويش عندنا يمثلون شخصيات يكتنفها شئ من الغموض أكثره محمول على الصلاح وحسن النية إن شاء الله ، ولهم اتصال ومحبة في الله عجيبة ، وهم في زيهم هذا يقومون بأدوار لا يجرؤ الإنسان العادي على القيام بها خشية من ذوي السلطان أو خوفاً من الحكام ، ويطلقون عبارات جامعة مانعة أحيانا ينتقدون بها الأفراد والجماعات أو المجتمع أو الحكومات ، وكان بعض الدراويش يردد دائما (أعمل حسابك من تلاتة : الله والنميري والكهرباء) ، أليس هذا هو الحق ؟
أحوال واطوار الدراويش
البكاء هو أخف حالاتهم وكل من احب الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه وقرأ سيرته تُبكيه كثير من مواقفهم ، ومن أحوالهم وأطوارهم التي يستغربها الناس الانجذاب والصرع والدخول في غيبوبة عند سماع القرآن والإنشاد والمديح والذكر ، والناس بين منكر ومعظم لحالتهم ، وقد يزم حال هولاء من فيه قسوة القلوب والرين عليها والجفاء عن الدين ، ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال واتمها واعلاها وكلا طرفي هذه الأمور زميم ، وقال في موضع آخر عن السكر وزوال العقل والتمييز : وقد يكون أحد الوجدين عن محبة ولذة وقد يكون عن محبة وألم . فهي أحوال تعتري بعض الناس ولا يحكم عليها إلا من ذاقها ، واذا كان الناس يطربون في الغناء حتى يشق أحدهم ثيابه طربا ، ويستفزه الطرب حتى يأتي أفعالا منكرة ، وربما سمحت نفسه فجاد بكل ما عنده وتبرع بكل ما يملك ، واذا كان هذا في أمر من أمور الدنيا تمليه محبة البشر للبشر أفلا نتوقع أن يُصدر مثله لمن سمت روحه وأحب ربه ودينه ورسوله ، هذا وقد وجدت خبرا ربما فسر لك شيئا من أحوال الدراويش واوقفك على عادة من العادات السائدة عندنا
فقد حكى ابن قتيبية في عيون الأخبار أن أبا علقمه النحوي المشهور بالتشادق والتقعر في الكلام كان يسير في الطريق فهاجت به المرة (أخلاط في الجسم) فسقط على الأرض مصروعا (يرفس) فاجتمع الناس واقبلوه يعصرون ابهامه ويؤذنون في اذنه ليفيق ، فلما آفاق ورأى اجتماع الناس قال لهم عبارته المشهورة (مالكم تكأكأتم علي كما تكأكأتم على ذي جنة ؟ افرنقعوا عني ) أي مالكم اجتمعتم علي وكأني مجنون تفرقوا عني ، ثم افلت منهم وهرب
فقد حكى ابن قتيبية في عيون الأخبار أن أبا علقمه النحوي المشهور بالتشادق والتقعر في الكلام كان يسير في الطريق فهاجت به المرة (أخلاط في الجسم) فسقط على الأرض مصروعا (يرفس) فاجتمع الناس واقبلوه يعصرون ابهامه ويؤذنون في اذنه ليفيق ، فلما آفاق ورأى اجتماع الناس قال لهم عبارته المشهورة (مالكم تكأكأتم علي كما تكأكأتم على ذي جنة ؟ افرنقعوا عني ) أي مالكم اجتمعتم علي وكأني مجنون تفرقوا عني ، ثم افلت منهم وهرب
مواقف طريفة
من مواقف الدراويش الطريفة وقف أحد الدراويش في موقف الحافلات ساعة الذروة فكلما جاءت حافلة تلقاها الناس ركضاً وحجزوا مقاعدها فتشحن وتنطلق والدرويش واقف يحمل سوطه وابريقه وسبحته وعليه جبته المرقعة ، فرآه أحد الواقفين ورأي الركاب يحجزون المقاعد بكتاب أو جريدة أو حقيبة أو كيس خضار وغيره ، فقال هذا المحسن للدرويش : يا ود الشيخ بالصورة دي لي بكرة ما بتلقي مقعد ، فإذا جاءت الحافلة احجز ليك مقعد بي إبريقك أو سوطك أو سبحتك ، فوجد الدرويش كلام الرجل معقولاً ، فما إن لاحت الحافلة حتى ركض نحوها ولم يجد اسهل من الإبريق فإتجه نحو إحدى النوافذ وأدخل الإبريق ليضعه على المقعد ، وكان بالحافلة مسطول ، رأسو معمر تمام وعيونو حُمر وهو دايخ ومدنقر فلما أحس بالحركة رفع رأسه فرأى الإبريق متجهاً نحوه فما كان منه إلا أن تنحنح بأعلى صوته ، ظن نفسه انه في الحمام ولما رأى الإبريق ظنه شخصا يقتحم عليه فكان ما كان
أيضاً من المواقف الطريفة كان عمنا الخليفة الهادي رحمه الله أحد الأصوات النادرة في أداء المديح النبوي يعرفه فقرا الشريف الهندي فكم شنف الآذان وأحيا الليالي بالسيرة النبوية ، قال خرج الشريف على الفقراء في جمع حاشد والذكر منتظم على نغمة واحدة له دوي يسد الأفق وكان الخليفة الهادي هو قائد مديح الذكر وكان عمنا الفكي يصول ويجول في الحلقة وسوطه في يده فسمع أعرابياً صوته أبح وأدؤاه نشاز افسد صفاء الذكر فأرهف السمع حتى عرف مكانه واقترب منه وفاجأه بضربه من سوطه فسكت الإعرابي سكوتا مطبقا ، وقال الخليفة فاقتربت من العربي وقلت له (ما تشيل الصلاة ! ) فقال لي مشيراً إلى الفكي الأمين (لا لا الفكي داك بزعل ) فهذه إحدى وظائف الدرة أو سوط الدراويش رحم الله الفكي الأمين أب سوط ، هذا وربما كان كثيرون من أمثاله يضطلعون بمثل هذه المهمة في بلاد السودان المترامية الأطراف ، فقد كان في الناس صفاء واخلاص نية وحسن مروءة وصدق توجه إلى الله ، ثم جاءت أجيالنا ومعها مكبرات الصوت فأغنت عن مثل تلك الجهود الطوعية ، ولكن مكبرات الصوت محقت النشاط وصغرته وكبرت جرعات النوم فاللهم أعنا على شكرك وحسن عبادتك ولا تجعلنا من الغافلين
والدراويش عندنا يمثلون شخصيات يكتنفها شئ من الغموض أكثره محمول على الصلاح وحسن النية إن شاء الله ، ولهم اتصال ومحبة في الله عجيبة ، وهم في زيهم هذا يقومون بأدوار لا يجرؤ الإنسان العادي على القيام بها خشية من ذوي السلطان أو خوفاً من الحكام ، ويطلقون عبارات جامعة مانعة أحيانا ينتقدون بها الأفراد والجماعات أو المجتمع أو الحكومات ، وكان بعض الدراويش يردد دائما (أعمل حسابك من تلاتة : الله والنميري والكهرباء) ، أليس هذا هو الحق ؟
أحوال واطوار الدراويش
البكاء هو أخف حالاتهم وكل من احب الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه وقرأ سيرته تُبكيه كثير من مواقفهم ، ومن أحوالهم وأطوارهم التي يستغربها الناس الانجذاب والصرع والدخول في غيبوبة عند سماع القرآن والإنشاد والمديح والذكر ، والناس بين منكر ومعظم لحالتهم ، وقد يزم حال هولاء من فيه قسوة القلوب والرين عليها والجفاء عن الدين ، ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال واتمها واعلاها وكلا طرفي هذه الأمور زميم ، وقال في موضع آخر عن السكر وزوال العقل والتمييز : وقد يكون أحد الوجدين عن محبة ولذة وقد يكون عن محبة وألم . فهي أحوال تعتري بعض الناس ولا يحكم عليها إلا من ذاقها ، واذا كان الناس يطربون في الغناء حتى يشق أحدهم ثيابه طربا ، ويستفزه الطرب حتى يأتي أفعالا منكرة ، وربما سمحت نفسه فجاد بكل ما عنده وتبرع بكل ما يملك ، واذا كان هذا في أمر من أمور الدنيا تمليه محبة البشر للبشر أفلا نتوقع أن يُصدر مثله لمن سمت روحه وأحب ربه ودينه ورسوله ، هذا وقد وجدت خبرا ربما فسر لك شيئا من أحوال الدراويش واوقفك على عادة من العادات السائدة عندنا
فقد حكى ابن قتيبية في عيون الأخبار أن أبا علقمه النحوي المشهور بالتشادق والتقعر في الكلام كان يسير في الطريق فهاجت به المرة (أخلاط في الجسم) فسقط على الأرض مصروعا (يرفس) فاجتمع الناس واقبلوه يعصرون ابهامه ويؤذنون في اذنه ليفيق ، فلما آفاق ورأى اجتماع الناس قال لهم عبارته المشهورة (مالكم تكأكأتم علي كما تكأكأتم على ذي جنة ؟ افرنقعوا عني ) أي مالكم اجتمعتم علي وكأني مجنون تفرقوا عني ، ثم افلت منهم وهرب
فقد حكى ابن قتيبية في عيون الأخبار أن أبا علقمه النحوي المشهور بالتشادق والتقعر في الكلام كان يسير في الطريق فهاجت به المرة (أخلاط في الجسم) فسقط على الأرض مصروعا (يرفس) فاجتمع الناس واقبلوه يعصرون ابهامه ويؤذنون في اذنه ليفيق ، فلما آفاق ورأى اجتماع الناس قال لهم عبارته المشهورة (مالكم تكأكأتم علي كما تكأكأتم على ذي جنة ؟ افرنقعوا عني ) أي مالكم اجتمعتم علي وكأني مجنون تفرقوا عني ، ثم افلت منهم وهرب
مواقف طريفة
من مواقف الدراويش الطريفة وقف أحد الدراويش في موقف الحافلات ساعة الذروة فكلما جاءت حافلة تلقاها الناس ركضاً وحجزوا مقاعدها فتشحن وتنطلق والدرويش واقف يحمل سوطه وابريقه وسبحته وعليه جبته المرقعة ، فرآه أحد الواقفين ورأي الركاب يحجزون المقاعد بكتاب أو جريدة أو حقيبة أو كيس خضار وغيره ، فقال هذا المحسن للدرويش : يا ود الشيخ بالصورة دي لي بكرة ما بتلقي مقعد ، فإذا جاءت الحافلة احجز ليك مقعد بي إبريقك أو سوطك أو سبحتك ، فوجد الدرويش كلام الرجل معقولاً ، فما إن لاحت الحافلة حتى ركض نحوها ولم يجد اسهل من الإبريق فإتجه نحو إحدى النوافذ وأدخل الإبريق ليضعه على المقعد ، وكان بالحافلة مسطول ، رأسو معمر تمام وعيونو حُمر وهو دايخ ومدنقر فلما أحس بالحركة رفع رأسه فرأى الإبريق متجهاً نحوه فما كان منه إلا أن تنحنح بأعلى صوته ، ظن نفسه انه في الحمام ولما رأى الإبريق ظنه شخصا يقتحم عليه فكان ما كان
أيضاً من المواقف الطريفة كان عمنا الخليفة الهادي رحمه الله أحد الأصوات النادرة في أداء المديح النبوي يعرفه فقرا الشريف الهندي فكم شنف الآذان وأحيا الليالي بالسيرة النبوية ، قال خرج الشريف على الفقراء في جمع حاشد والذكر منتظم على نغمة واحدة له دوي يسد الأفق وكان الخليفة الهادي هو قائد مديح الذكر وكان عمنا الفكي يصول ويجول في الحلقة وسوطه في يده فسمع أعرابياً صوته أبح وأدؤاه نشاز افسد صفاء الذكر فأرهف السمع حتى عرف مكانه واقترب منه وفاجأه بضربه من سوطه فسكت الإعرابي سكوتا مطبقا ، وقال الخليفة فاقتربت من العربي وقلت له (ما تشيل الصلاة ! ) فقال لي مشيراً إلى الفكي الأمين (لا لا الفكي داك بزعل ) فهذه إحدى وظائف الدرة أو سوط الدراويش رحم الله الفكي الأمين أب سوط ، هذا وربما كان كثيرون من أمثاله يضطلعون بمثل هذه المهمة في بلاد السودان المترامية الأطراف ، فقد كان في الناس صفاء واخلاص نية وحسن مروءة وصدق توجه إلى الله ، ثم جاءت أجيالنا ومعها مكبرات الصوت فأغنت عن مثل تلك الجهود الطوعية ، ولكن مكبرات الصوت محقت النشاط وصغرته وكبرت جرعات النوم فاللهم أعنا على شكرك وحسن عبادتك ولا تجعلنا من الغافلين